خیارات إسرائیل رداً على “طوفان الأقصى”.. من تدمیر “حماس” وهدم غزة عن بُعد إلى الاستنزاف بالتدریج
ما الذي يمكن لإسرائيل أن تفعله الآن، علاوة على قصف وحشي لقطاع غزة من الجو، من أجل استرداد هيبتها الجريحة، وقوة ردعها المصابة، وترميم صورتها النازفة؟ وما هي الخيارات الممكنة، والحسابات والاعتبارات المطروحة لدى رؤسائها، وهي تبدو، حتى الآن، لم تفق بعد من صدمتها بالكامل، بعد ضربة “طوفان الأقصى” الإستراتيجية؟
تزامناً مع تكشّف ملامح الأضرار البشرية والمادية والمعنوية، وحالة الصدمة العميقة، والانكسار في الروح الإسرائيلية التي لن تبرأ بعد من جراح 1973، تتعالى الأصوات للانتقام والتدمير، وسط استفادة من الضوء الأخضر والدعم اللوجستي العسكري الأمريكي، وهذا ما أشار له الناطق بلسان جيش الاحتلال، قبيل ظهر اليوم الإثنين، بقوله إن قواتنا قامت بارتكاب مذبحة بحق الغزيين على الحدود، وهم عائدون من “غلاف غزة”، متوعداً بالمزيد من القوة والقبضة الحديدية، بعد إلقاء 100 طن ديناميت على حي الشجاعية وحده، ليلة أمس، مدعياً أن الجيش نجح بالسيطرة الآن على كل المستوطنات، وأنه انتقل من الدفاع للهجوم.
فيما يحاول القادة السياسيون والعسكريون في الدولة اليهودية تخفيف وطأة الضربة الموجعة والتقليل من مفاعيلها وخطورتها، ينبّه عددٌ كبير من المراقبين والمحللين لكونها كارثة كبرى تنطوي على عار وفضيحة وتبعات فورية وبعيدة المدى على حد سواء في مستويات واتجاهات مختلفة. من هؤلاء الكاتب الصحفي في “هآرتس” أوري مسغاف، الذي يقول اليوم، في تحليل عنوانه: “دولة عظمى إقليمية تخضع لبضع مئات “مخربين”، وحكومة التكتوك أصيبت بالخرس”، إن الهزيمة التي لحقت بإسرائيل، في نهار السبت، هي السقوط العسكري الأكثر قسوة في تاريخ إسرائيل، والكارثة الأعظم، منذ قامت عام 1948. ويعلّل مسغاف مقولته هذه، التي تعبّر عن حالة الزلزال العاصف بإسرائيل في هذه الأيام، بالقول إن عدد القتلى والمصابين والأسرى يزيد عن مثل هذا العدد في أي يوم من أيام حربي 1948 و 1973.
مسغاف: في 7 أكتوبر انهارت إسرائيل وهي دولة “عظمى” إقليمية، وتصدّر السلاح ومنظومات الأمن والتجسس للعالم، مقابل مئات فقط من “مخرّبي حماس” والمدنيين الغزيين ممن تدفقوا للمستوطنات
ويتابع، راسماً ملامح “الهزة الأرضية” التي نجحت المقاومة الفلسطينية المحاصرة أن تحققها في ساعات: “لكن هذه الأرقام هي مجرد بداية القصة.
في الحربين المذكورتين واجهت إسرائيل الوليدة (1948)، أو الفتاة (1973)، هجمات جيوش عربية نظامية ومدربة ومسلحة. وفي 07.10.2023 انهارت إسرائيل، ابنة الخامسة والسبعين من عمرها، وهي دولة عظمى إقليمية، وتصدّر السلاح ومنظومات الأمن والتجسس للعالم، مقابل مئات فقط من “مخرّبي حماس” وبضع مئات من المدنيين الغزيين ممن تدفقوا للمستوطنات”.
وفي استنتاجاته، يدعو مسغاف أيضاً للإسراع لـ “كيّ وعي حماس” قبل إغلاق نافذة الشرعية الدولية في وجه إسرائيل، فالقنبلة الموقوتة تعمل، والوقت محدود”. لكن السؤال الذي يتصاعد النقاش حوله في إسرائيل هو؛ كيف وماذا تفعل إسرائيل، بالإضافة لنيران الجحيم التي تلقي بها على غزة من بعد؟
نتنياهو لم يحدد أهداف الهجمات على غزة
حالياً، ونحن في اليوم الثالث من الحرب، تتواصل الاشتباكات بين قوات الاحتلال الإسرائيلية والمقاومة الفلسطينية في ستة مواقع، منها مدينة سديروت، وخمس مستوطنات، فيما يحشد الجيش الإسرائيلي آلافاً من جنوده على المناطق الحدودية، في محاولة لإغلاقها والحيلولة دون استمرار دخول مقاتلين من غزة، دون نجاح كامل، فالتقارير الإسرائيلية تشير اليوم، الإثنين، إلى أن المقاومة الفلسطينية ما زالت قادرة على دفع مقاتليها عبر الحدود، وسط تأكيدات إسرائيلية أيضاً بأن الاشتباكات تستمر في هذا الساعة مع إصابات إسرائيلية، وهناك أحاديث عن وجود نفق من غزة لمستوطنة إسرائيلية.
من جهته، اكتفى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بالقول إننا “في حرب”، وإننا ذاهبون لمعاقبة “حماس”، وتوجيه ضربات موجعة. وتَبِعَه وزير الأمن آفي غالانت، الذي كرر تهديداته بأن الجيش الإسرائيلي ذاهب لتغيير واقع الحال داخل قطاع غزة لخمسين عاماً. وتبعهما، اليوم، وزير الزراعة، رئيس سابق للمخابرات العامة (الشاباك) آفي ديختر، إذ قال، بعد إلحاح أسئلة القناة 12 العبرية، إننا سنقوم باقتلاع البنى والقدرات العسكرية لدى الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة.
هذه التهديدات المتزامنة مع قصف وحشي للقطاع عن بعد تتكرر على لسان مسؤولين سياسيين آخرين اليوم، لكنهم يتحاشون الإعلان رسمياً عن حرب، أو عن تدمير حركة “حماس”. ويرى مراقبون إسرائيليون أن ذلك ليس صدفة، لأن القضاء على المقاومة الفلسطينية داخل القطاع ليس مهمة سهلة، ولأنه مكلف جداً ويحتاج لاجتياح بري واسع، يترتب عليه مقتل وإصابة مئات من الجنود، ففي حرب “الجرف الصامد”، عام 2014، حاولت إسرائيل دخول بقعة صغيرة في القطاع، واصطدمت بمقاومة شرسة، وفي تلك الحرب فقدت 75 من جنودها، وأصيب 700 منهم، وتم أسر جنديين حتى اليوم.
ويتساءل الجنرال في الاحتياط عاموس غلعاد، مدير سابق للقسم الأمني والسياسي في وزارة الأمن، أنه ينبغي تعلّم “حماس” درساً لا ينسى، محذراً من تبعات عدم فعل ذلك، خاصة أن “الجيران يراقبون ويتأملون وينتظرون ماذا نفعل”.
لكن جلعاد، كالكثير من المراقبين، يتساءل؛ هل إسرائيل مستعدة لاجتياح عسكري بري؟ وهل الإسرائيليون مستعدون لتقديم تضحيات جسام؟ وماذا تفعل بـ 150 جندياً ومدنياً إسرائيلياً باتوا أسرى داخل القطاع؟ ماذا بعد اليوم التالي، ومن يتولى إدارة شؤون مليوني نسمة داخل القطاع، ومن يعلم، فربما تستبدل “حماس” بما هو أشد وأخطر.
في المقابل؛ يحمل جلعاد على حكومة نتنياهو، لأنها أضعفت الجيش، ودمرت وحدة الإسرائيليين الداخلية، بسبب “الانقلاب على النظام”، منوهاً لانهيار إستراتيجية نتنياهو بزرع الفرقة والانقسام بين غزة ورام الله.
تبعه المعلق العسكري في القناة 13 العبرية ألون بن دافيد، الذي يتنبه إلى أن تردد إسرائيل في الاجتياح البري للقطاع مردّه ليس فقط حسابات عسكرية وسياسية، مشيراً لمخاطر انفجار الجبهة الشمالية، ودخول “حزب الله” على خط القتال، بحال الاجتياح الواسع، محذّراً من “سيناريو الرعب” المتمثل بـ “وحدة الساحات” بانضمام الفلسطينيين في الضفة الغربية وأراضي 48، علاوة على الجبهة الشمالية، في وقت واحد، بينما الجيش غير جاهز لمثل هذه المواجهة متعددة الجبهات. ويقول رئيس الجناح السياسي الأمني في وزارة الأمن الإسرائيلية إن الخيار الأفضل هو القصف الجوي لعدة أيام، والانتظار، ريثما يتم ربما تبادل أسرى ونضوج استعدادات الجيش لحملة برية واسعة، لافتاً لحيوية استنزاف المقاومة الفلسطينية، ودفع قطاع غزة كلّه لرفع الراية البيضاء في نهاية المطاف، كي تسترد قوة الردع لا “مجرد صورة انتصار”. ومقابل من يحذر من تبعات الاجتياح البري، كانضمام “حزب الله” عندئذ للمواجهة، يشير عسكريون إسرائيليون في الاحتياط إلى أن الولايات المتحدة بتصريحاتها ودفعها بوارجها العملاقة للبحر المتوسط ستردع “حزب الله” وإيران من التدخل الفعلي المباشر.
أربعة مسارات كافتها غير واعدة
ويرى محلل الشؤون العسكرية في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل أن هناك أربعة مسارات تمثل أمام إسرائيل، اليوم، كافتها غير واعدة لأنها تضعها أمام معضلة مركّبة، خاصة أنها تقاد اليوم من قبل حكومة قادتْها، منذ البداية، لحالة معقدة ولورطة، لافتاً إلى أن تسريبات صحفية من اجتماع الحكومة، أمس، تفيد بأن عدداً من الوزراء غير صالحين ليكونوا وزراء، خاصة في ساعات حرب. وعلى خلفية كونها جريحة ونازفة في قوتها وهيبتها وصورتها بعيون مواطنيها وأعدائها، وفي ظل تواتر شهادات الناجين الإسرائيليين عن حجم الكارثة في”غلاف غزة”، من المتوقع أن تصعّد إسرائيل من ضرباتها، وبشكل عشوائي، ودون إنذار المدنيين مسبقاً، خاصة أن أوساطاً إسرائيلية واسعة تطالب بالانتقام، وتبدو جائعة لإشباع غريزتها بالانتقام كيفما اتفق، كي يتعلّم الجميع.
برنياع: الوحدات العسكرية الإسرائيلية المرسلة إلى الجنوب ليست من أجل الدفاع عن غلاف غزة، وإنما من أجل عملية برية بحال قررت الحكومة شنها، ومعظم الإسرائيليين سيؤيدون عملية كهذه
ويقول المعلق السياسي في “يديعوت أحرونوت” ناحوم برنياع إن الصدمة كبيرة، وإن الضربة تنطوي على إهانة، ومذلّة، وإنها “يوم غفران” ثان. وبعد خيار المفاوضات السياسية، أو الضرب عن بعد، يشير برنياع لخيار ثالث، هو حملة برية. ويضيف:
“الوحدات العسكرية الإسرائيلية المرسلة إلى الجنوب، منذ أمس، ليست من أجل الدفاع عن غلاف غزة، وإنما من أجل عملية برية بحال قررت الحكومة شنها، ومعظم الإسرائيليين سيؤيدون عملية كهذه في بدايتها. وبعد ذلك ستبدأ الأسئلة: ماذا سيحدث بعد يوم من احتلال القطاع، إذا بقينا ننزف دماً هناك وتورطنا في رمال غزة، وإذا انسحبنا فماذا حققنا. وهل نعتزم تصفية جميع قيادات حماس خلال الاحتلال؟ ومن سيحلّ مكانهم؟ القاعدة أم داعش؟”.
جرائم بمقدار الإهانة
ويرى الباحث في “معهد دراسات الأمن القومي” في جامعة تل أبيب، كوبي ميخائيل، أن للحرب التي أعلنت عنها إسرائيل دلالات فائقة، ولذا عليها تعريف هدفها الإستراتيجي وغايات المعركة العسكرية.
معتبراً أن الهدف الإستراتيجي يجب أن يكون ضمن تغيير أساسي في مكانة “حماس” وتأثيرها على الساحة الفلسطينية، وأن مصدر قوة “حماس” قدراتها العسكرية، ولذلك يجب العمل على استهداف شديد بقدرات وقيادة “حماس”، وأن هذا الاستهداف سيخدم ثلاثة أهداف أساسية وضرورية: استنزاف “حماس”، وضرب تأثيرها على الضفة الغربية، إضعاف تأثير إيران على الساحة الفلسطينية، وردع “حزب الله”، وتعزيز صورة القوة الإسرائيلية، وغيرها.
وهناك من يقترح إتمام صفقة تبادل أسرى مع “حماس” أولاً، قبيل شن الحرب على غزة كي لا يقتل الأسرى الإسرائيليون هناك، كما يقول الجنرال في الاحتياط غيوررا اسلاند، في حديث للإذاعة العبرية العامة.
في المقابل هناك عدد قليل من المراقبين الإسرائيليين، أمثال محرر الشؤون الدولية في القناة 13 نداف أيال، ممن يحذرون من التسرع واتخاذ قرارات وسط حالة غضب وانفعال شديدين، أو من الإفراط في استخدام القوة بما ينتهك القوانين والمواثيق الدولية.
ومع ذلك يبدو أن إسرائيل الجريحة المهانة تتجه في كل الأحوال والسيناريوهات لارتكاب مذابح جديدة غير مسبوقة، ومن المرجح أن تكون الجرائم بحجم الإهانة.
القدس العربي